الفصل الثاني

جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان

1-هل كان لمصحف ابي بكر طابع رسمي؟

ماذا كانت منزلة المصحف الذي جمع من طرف زيد بأمر من أبي بكر؟ هل كان مصحفا خاصا بالخليفة أم كان الغرض جعله مصحفا رسميا للأمة الإسلامية التي كانت آنذاك سائرة في النمو؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نحقق في ما وقع لهذا المصحف بعد جمعه. جاء في صحيح البخاري ما يلي : "فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم" (كتاب فضائل القرآن رقم 4603)

هؤلاء الثلاثة الذين تناقلوا المصحف في بداية الأمر كانوا كلهم شخصيات ذات مكانة عالية إذ أن أبا بكر و عمر كانا أول من خلف محمد على التتالي في حين كانت حفصة بدورها شخصية بارزة و هذا ما جعل بن أبي داود يصفها بأنها كانت في نفس الوقت "بنت عمر" و "زوج النبي". لقد أُخِدَ هذا المصحف بقدر كاف من الجدية من طرف الخليفتين أبي بكر و عمر لذلك لاقى اعتناء خاصا في عهديهما. أما معرفة ما إذا كان هذا المصحف قد اكتسب طابعا رسميا في هذه الفترة فهذه مسألة أخرى.

عملية جمع القرآن الذي تمت في عهد أبي بكر كانت لها منزلة خاصة لأن جامعه زيد بن تابث كانت له مكانة خاصة بين الصحابة الذين اهتموا بالقرآن. حاول زيد بقدر مستطاعه أن يجمع مصحفا أقرب ما يكون إلى الكمال لأنه من غير السهل على العموم إثبات حدوث تحريفه. يستنتج من هذا أن المصحف كانت له قيمة عالية لذلك استفاد من رعاية أبي بكر و عمر خلال فترتي خلافتهما. لكن بالرغم من كل هذا فليس هناك أدنى شك أن هذا المصحف لم يعطى له أي طابع رسمي في عهديهما. يزعم ديزاي أنه لم تكن في ذلك الوقت أية حاجة ماسة ل" إعطاء هذا المصحف طابعا رسميا" لأن القرآن كان حسب زعمه لا يزال محفوظا في ذاكرات الحفاظ من أصحاب محمد الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك (ديزاي‚ ص 31). لقد رأينا سابقا أن ما زُعِمَ بخصوص الحفظ الكامل و المثالي لنص القرآن في ذاكرات الصحابة مبني على فرضيات مجانية إذ لا يمكننا قبول فكرة أن مصحف أبي بكر لم يكن في حاجة لكي يفرض على جمهور المسلمين بعد جمعه لكون بعض الأشخاص كانوا لا يزالون يحفظونه في ذاكراتهم. بالعكس من ذلك فإن أبا بكر و عمر لم يأمرا بجمع القرآن في نص موحد إلا بعد أن شعرا بالحاجة الماسة إلى ذلك نظرا بالدرجة الأولى إلى عدم جدوى التعويل على ذاكرات الناس وحدها. من المؤكد أن أبا بكر و عمر كانا يدريان جيدا أن أشخاصا كابن مسعود و أبي بن كعب و معاذ بن جبل كانوا هم كذلك على دراية واسعة بالقرآن وبالتلي كان بإمكانهم هم كذلك جمع مصاحف قرآنية ذات مصداقية كافية. رغم طابع الأهمية الذي أعطي له لم يكن مصحف زيد بن تابث يعتبر أكثر نفوذا بالمقارنة مع باقي المصاحف التي جُمِعت آنذاك و لهذا السبب بالذات لم يكن من الممكن فرضه كمصحف رسمي و موحد على مجموع الأمة الإسلامية. لقد تم في واقع الأمر إخفاء هذا المصحف مباشرة بعد جمعه. فبعد وفاة عمر انتقل هذا المصحف إلى ابنته حفصة التي كانت تعيش في عزلة شبه تامة منذ وفاة محمد و هذا ما يبين بوضوح أنه لم تكن هنالك أية رغبة في نشره بين الجمهور. يزعم ديزاي أن المصحف احتفظ به كل هذه السنين لكي يتم استعماله في المستقبل حين سيكون كل القراء من صحابة محمد قد توفوا (ديزاي‚ ص 31). مع الأسف لا يوجد في ما ترك لنا الأقدمون من روايات ما يشير إلى أن مصحف زيد كان الغرض من جمعه أن يستعمل للهذف المزعوم. على العكس من هذا كانت الحاجة الماسة إلى نص مكتوب هي التي دفعت إلى جمعه. في الوقت الذي كان فيه زيد يجمع القرآن كان يدري جيدا أن مصحفه قد لا ينظر إليه كنص مكتمل لأن بعض الفقرات قد فقدت منه و آيتين على الأقل لم يكن يعرفهما إلى أن ذكًّره بهما أبو خزيمة. لو كان أبو بكر و عمر يعلمان علم اليقين أن المصحف كان مكتملا لتم فرضه على مجموع المسلمين في الحين.

من جهة أخرى إذا افترضنا أن زيدا كان مقتنعا بأن مصحفه لم يكن أحسن من المصاحف التي قام عبد الله بن مسعود و صحابة آخرون بجمعها أمكننا أن نفهم لمذا تم إخفاء هذا المصحف. حين انتقلت الخلافة إلى عثمان كانت المصاحف الأخرى تكتسح الميدان في مختلف مناطق الدولة الإسلامية الناشئة في الوقت الذي كان فيه مصحف زيد يرقد في بيت إحدى زوجات محمد. لقد جُمِع هذا المصحف بأمر رسمي من الخليفة أبي بكر بدون أن يُعطى له في أي وقت من الأوقات أي طابع رسمي فلم يكن في واقع الأمر إلا واحدا من مصاحف عديدة تم جمعها في نفس الفترة تقريبا و كانت لها نفس المصداقية.


رجوع